إثبات صفتي النفس والمجيء لله تعالى
" وقوله -تعالى- إخبارا عن عيسى عليه السلام أنه قال: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾(1)
وقوله -سبحانه-: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾(2)
وقوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾(3)
.
أما الآية ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾(1)
فيها إثبات النفس لله -تعالى-، والنفس حقا تطلق على الذات، قال الله
-تعالى-: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾(4)
على نفسه يعني: على ذاته، وتقول: جاءني فلان نفسه يعني: تأكيدا حتى لا يتوهم أنه جاءك
رسوله أو ابنه، فإثبات النفس على أنها الذات هذا معروف ويمكن أن قصد عيسى عليه
السلام ما في ضميري ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي﴾(1)
يعني: ما أسره في نفسي وما أخفيه في قلبي، وما لا أتكلم به بل أحدث به نفسي خفية، ﴿وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾(1)
فـ ﴿إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾(5)
وبكل حال هذا دليل على إثبات هذه الصفة، وإذا أطلق عليها أطلقت النفس على الذات أو
أطلقت على ما في النفس يعني: ما هو خفي وما يضمره الإنسان أو يخفيه الرب -تعالى- كان
هذا سائغا، وكان دليلا واضحا على إثبات هذه الصفة، وقد تأولها كثير من المنكرين، وأنكروا
إطلاق النفس على الله -تعالى- مع أنها أطلقت في القرآن في هذه الآيات وما أشبهها، وكذلك
في بعض الأحاديث، ولكن لا عبرة بهم، ولا بتأويلاتهم نحن نتقبلها ونكل كيفيتها إلى خالقها،
هذه إثبات صفة النفس.
أما الآية التي بعدها فإثبات صفة المجيء ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾(2)
وكذلك: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ
الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾(3)
ومثلها قوله -تعالى- في سورة الأنعام: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ
يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾(6)
.
هذه الآيات مما حصل فيها اختلاف كثير وإنكار كبير للمتأخرين من المتكلمين،
وبالغوا في تأويلها وفي صرفها عن ظاهرها، فتجدهم ينكرون صفة المجيء وصفة الإتيان ونحو
ذلك، بل قرأت في تفسير بعض المعتزلة والأشاعرة لما أتى على الآيات الأولى من سورة
البقرة ﴿هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾(3)
قال: وأما إتيان الله فقد أجمع المسلمون على أن الله منزه عن المجيء والذهاب؛ لأن هذا
من شأن المحدثات والمركبات، هكذا علل، منزه عن المجيء والذهاب، وسمعت من حكى مناظرة
جرت بين سني وبين مبتدع فقال المبتدع: أنا أكفر برب يزول عن مكانه فقال
السني: أنا أومن برب يفعل ما يشاء، فجعلوا
المجيء والذهاب من صفات المحدثات والمركبات كما يقولون، ونزهوا الرب عن أمثال هذا وجعلوا
النزول والمجيء والإتيان الذي ذكره الله -تعالى- أنه زوال عن مكانه وحركة وجعلوا هذا
تشبيها بمجيء المخلوق وانتقاله وما أشبه ذلك، ولكن لا إنكار في شيء من ذلك، فالأحاديث
والآيات صريحة وواضحة وليس لنا أن نتدخل في تأويلها ونسعى في تحريفها.
المتأخرون من المتكلمين يقولون في هذه الآيات، آيات المجيء والإتيان،
يقولون: إن فيها قولان: القول الأول ينسبونه للسلف، وهو أنهم يعتقدون أن السلف يسكتون،
ولا يعتقدون فيها مجيئا حقيقيا بل يسكتون عنها ويتركون الكلام فيها، ويمرونها دون أن
يتكلموا أو يفسروها بأي نوع من أنواع التفسير وإنما يسكتون عنها دون الخوض فيها. يقولون:
لا تأويل لها ولا تفسير لها، ولا نخوض فيها ولا نتكلم فيها ولا ندري ما معناها ولا
نبحث في دلالاتها هكذا يزعمون أن السلف على هذه الطريقة، والقول الثاني تأويلهم لها
بأنواع من التأويلات المتكلفة، وأكثرهم على أن فيها مقدر، يقدرون فيها فيقولون: جاء
أمر ربك، أو ﴿أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾(3)
أي: أمر الله ﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾(6)
أي: أمر ربك.
وكان من جملتهم الكوثري
ذاهب الكوثري المصري الذي حقق كثيرا
من الكتب وأفسدها، من جملة ما حققه كتاب "الأسماء والصفات"
للبيهقي، فإنه أفسده بتعليقاته عليه، ولما أتى على هذه
الآية قال: إن الله يقول في سورة النحل: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ
يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾(7)
وقال: ما دام أن في سورة النحل ﴿أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾(7)
فإنا نقول: كذلك في سورة البقرة: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾(3)
أي: أمر الله ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾(3)
وكذلك آية الأنعام: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ
يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾(6)
أي: أمره، وكذلك في سورة الفجر: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾(2)
أي: جاء أمره، فجعل هذا محمولا على الآية التي في سورة النحل، وقال: إن القرآن يفسر
بعضه بعضا.
ونحن نقول: لا يلزم من إتيان أمر الله في آيات امتناع إتيان الله -تعالى-
في آية أخرى، وإذا أثبتنا لله الإتيان قلنا: يجيء كما يشاء، والأحاديث التي في الشفاعة
فيها أن بني آدم يطلبون الشفاعة حتى يأتي الله -تعالى- لفصل القضاء بين عباده، وقد
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه «إذا طلبت منه الشفاعة، فإذا
رأى ربه سجد وأطال السجود فيقول الله له: ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع»(8)
وذلك دليل على أن الله -تعالى- يجيء لفصل القضاء مجيئا يليق بجلاله ولا يلزم من ذلك
محدثات ولا يلزم من ذلك مركبات، نعتقد هذه الصفة ولا نقيس الإتيان بمخلوق من مخلوقاته
ينزل الله -تعالى- ويجيء كما يشاء ويفصل بين عباده ولا ينافي ذلك عظمته وجلاله وكبريائه
وصغر المخلوقات بالنسبة إليه كل ذلك لا ينافيه، وما ذاك إلا أنا لا نحيط به علما ولا
نكيفه ولا نكيف أية صفه هو عليها هذا هو القول الحق.
وأما الآيات التي فيها إطلاق إتيان الأمر أو المراد به الأمر كقوله
في سورة الحشر: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُو﴾(9)
إلى قوله: ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُو﴾(9)
ففي هذه الآية أتاهم الله يعني: بعذابه أن المراد أتاهم بالعذاب وذلك؛ لأنه معروف
أن الله أرسل إليهم عذابا وهو الرعب الذي قذفه في قلوبهم ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ﴾(9)
.
(1) سورة المائدة: 116
(2) سورة الفجر: 22
(3) سورة البقرة: 210
(4) سورة الأنعام: 54
(5) سورة المائدة: 109
(6) سورة الأنعام: 158
(7) سورة النحل: 33
(8) البخاري : التوحيد (7510) , ومسلم : الإيمان (193)
, وابن ماجه : الزهد (4312) , وأحمد (3/116) , والدارمي : المقدمة (52).
(9) سورة الحشر: 2 |